عيش مع أحدث الاكتشافات العلمية حول المنطقة التي يلتقي فيها النهر العذب مع البحر المالح، وكيف يتطابق العلم الحديث مع ما جاء به القرآن قبل أربعة عشر قرناً، لنقرأ...
يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) [الفرقان: 53]. تحدثت هذه الآية عن نعمة من نعم الله تعالى علينا، وهي أن جعل بين النهر العذب والبحر المالح برزخاً منيعاً يمنع طغيان أحدهما على الآخر ويحافظ على التوازن المائي على كوكب الأرض، ولذلك قال: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا). ونلاحظ من هذه الآية أن البحر يمكن أن يكون عذباً فراتاً ويمكن أن يكون ملحاً أجاجاً. وفي هذه الآية إشارة أيضاً إلى وجود حاجز منيع وقوي سمّاه القرآن (البرزخ).
إن الذي يتأمل هذه الآية يدرك أن الله تعالى يتحدث عن معجزة عظيمة وآية كبرى، وهي امتزاج الماء العذب بالماء المالح عبر حاجز منيع وحِجرٍ محكم. وكأن الله تعالى يعطينا إشارة إلى أهمية هذه المنطقة، أي منطقة مصبّات الأنهار في البحار، وهذا ما سنراه الآن علمياً.
ما هو الحِجْر؟
يقول الفيروز آبادي في معجم القاموس المحيط: "الحَجْرُ: المَنْعُ، ونشأَ في حِجْره أي: في حِفظِه"[1]. ونستطيع أن نستنتج أن هنالك حاجزاً منيعاً ومحفوظاً برعاية الله تعالى، أو أن هنالك منطقة من الماء محاطة بحواجز كأنها حجرة مغلقة، ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "وهو الذي مرج البحرين: أي خلق الماءين، الحلو والملح. فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو. وجعل بينهما برزخاً: أي حاجزاً، وحِجراً محجوراً: أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر[2]".
ولكن ماذا عن العلم الحديث وماذا يقول في ذلك؟
أهمية البرزخ المائي
البرزخ المائي هو منطقة تقع على مصبات الأنهار عندما يلتقي النهر مع البحر، أي عندما يلتقي الماء العذب بالماء المالح، وهي منطقة تعتبر مغلقة ومحاطة بحاجز مائي أو من اليابسة. يسميها العلماء اليوم estuaryوتحظى هذه المناطق باهتمام كبير من قبل العلماء، لأن امتزاج الماء العذب بالمالح هي ظاهرة فريدة ورائعة حقاً3].
إن الذي يزور منطقة المصب هذه أو التي يسميها القرآن بمنطقة الحاجز أو البرزخ يلاحظ الاختلافات الكبيرة في هذه البيئة والفروقات في كثافة المياه ودرجة ملوحتها ودرجة حرارتها من لحظة لأخرى ومن فصل لآخر[4]
أي أن هنالك عملية مزج وخلط وتداخل مستمر للماء العذب والماء المالح.
وربما نعجب إذا علمنا أن كلمة (مَرَجَ) الواردة في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) تعبر تعبيراً دقيقاً عن العمليات التي تتم في هذه المنطقة والتي رصدها العلماء حديثاً.
ففي القاموس المحيط نجد معنى كلمة (مَرَجَ): خَلَطَ
وأمر مَرِيج: مختلط، والمَرجُ: الاختلاط والاضطراب[5]. وفي تفسير ابن كثير: "المريج: المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله، كقوله تعالى (إنكم لفي قول مختلف) [الذاريات: 8]"[6].
والعجيب جداً أن ما يحدث فعلاً في منطقة المصب يشمل جميع هذه المعاني، أي أن الكلمة القرآنية تعبّر تعبيراً دقيقاً عن حقيقة ما يحدث
كيف لا تعبر عن الحقيقة وهي منزّلة من خالق هذا المصب سبحانه وتعالى؟
أقسام منطقة المصب
يقسّم العلماء اليوم منطقة المصب إلى ثلاثة أقسام:
1- منطقة الماء العذب من جهة النهر.
2- منطقة الماء المالح من جهة البحر.
3ـ منطقة الحاجز بين النهر والبحر، وهي ما يسميه القرآن بالبرزخ.
ويمكن أن يمتد تأثير المياه العذبة على المياه المالحة لمئات الكيلو مترات في البحر. وبالرغم من وجود الكثير من مصبات الأنهار في العالم، إلا أنه لا يوجد برزخ يشبه الآخر! فكل برزخ يتميز بخصائص محددة عن غيره تتبع الاختلاف في درجة الملوحة، والاختلاف في درجة الحرارة، وهذا يتبع درجة ملوحة ماء البحر، وطول النهر، وغير ذلك من العوامل مثل درجة الحموضة PH وكمية العوالق في ماء النهر وسرعة تدفق ماء النهر...
المنطقة المحجورة
في منطقة المصب، حيث يلتقي النهر مع البحر، هذه المنطقة تتميز بوجود اختلاف كبير في درجة الملوحة ودرجات الحرارة، وعلى الرغم من ذلك هنالك كائنات ونباتات وحيوانات تأقلمت وتعيش في هذه المنطقة.
إن الكائنات التي تعيش في الماء المالح لا تستطيع الحياة في الماء العذب، لأن خلايا جسدها تحوي تركيزاً محدداً من الملح وبمجرد إلقائها في الماء العذب سوف تموت بسبب دخول الماء العذب إلى جسمها بكميات كبيرة.
الكائنات التي تعيش في الماء العذب أيضاً لا يمكنها أن تعيش في الماء المالح للسبب ذاته، أما الكائنات التي تعيش في المنطقة الفاصلة بين النهر والبحر أي منطقة البرزخ فهي أيضاً لا يمكنها أن تعيش خارج هذه المنطقة لأنها تأقلمت معها، وبالتالي يقوم اليوم العلماء بدراسة منطقة المصب كمنطقة مستقلة لها طبيعتها وقوانينها وكائناتها.
وهذا يدل على أن منطقة المصب هي منطقة محجورة ولها استقلاليتها ومحفوظة أيضاً برعاية الله تعالى، وهي منطقة مغلقة تشبه الحجرة المغلقة، ومن هنا يمكن أن نفهم بعمق أكبر معنى قوله تعالى(وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا).
هنالك كائنات عديدة تعيش في منطقة المصب بين النهر والبحر، وقد زوّدها الله تعالى بأجهزة تستطيع التأقلم مع الاختلافات الكبيرة في درجات الحرارة والملوحة في هذه المنطقة. وهذه أسماك تأقلمت مع الاختلاف المستمر في درجة الملوحة والحرارة، وهذه الكائنات لا تستطيع العيش إلا في هذه المنطقة، وكأن منطقة البرزخ هذه محجورة ومحفوظة وتمنع دخول أي كائنات أخرى إليها.
اختلاط واضطراب واختلاف
من عظمة البيان القرآني أنه يعطينا التعبير العلمي الدقيق والمختصر في أقل عدد من الكلمات، فكلمة (مَرَجَ) تتضمن العديد من المعاني أهمها:
1- الخلط:يقول العلماء إن هنالك خلطاً ومزجاً مستمراً للماء المالح بالماء العذب، وهذا الخلط لا يتوقف أبداً، إذ أن سطح الماء يرتفع وينخفض باستمرار وبنظام محكم، ويبقى كل ماء منفصل عن الآخر بمنطقة محددة بينهما هي ما سمّاه القرآن بالبرزخ، هذا البرزخ قد يمتد لعدة كيلو مترات. ومن معاني كلمة (مرج): خلط، كما رأينا.
نرى في هذا الشكل نهر الفرايزر الذي ينبع من كولومبيا ويصب في مياه المحيط المالحة. ونرى كيف تتشكل الجبهة المالحة والتي تعتبر بمثابة حاجز محكم تمر من خلاله المياه العذبة إلى المياه المالحة. ونرى أيضاً كيف يطفو الماء العذب على سطح الماء المالح، وعندما درس العلماء جريان الماء في هذه المنطقة وجدوه جرياناً مضطرباً، مع العلم أن الذي ينظر إلى الماء يظنه ساكناً، وهذا يتوافق تماماً مع قوله تعالى (مرج البحرين)، والمرج هو الاضطراب، فسبحان الذي يعلم السرّ وأخفى!
2- الاضطراب:
إذا نظرنا إلى منطقة المصب نلاحظ أن الجريان مستقر، وأنها منطقة هادئة غالباً. ولكن التجارب الجديدة في منطقة البرزخ المائي بين النهر العذب والبحر المالح أشارت إلى أن الجريان هو جريان مضطرب، وهذه معلومات دقيقة لم يصل إليها العلماء إلا حديثاً جداً[9]. وهذا هو أحد معاني كلمة (مرج).
، لقد وجد هؤلاء العلماء أن هنالك مزجاً مستمراً للماء المالح بالماء العذب، كما وجدوا اختلافات كبيرة في نسبة الملوحة والحرارة والكثافة من منطقة لأخرى ومن وقت لآخر، ووجدوا أيضاً أن الجريان تحت سطح الماء مضطرب، مع العلم أنه يظهر للعين وكأنه مستقر، إذن وجدوا ثلاث حقائق في هذه المنطقة وهي: اضطراب الجريان، واختلاط الماء باستمرار واختلاف خصائص الماء، وهذه المعاني الثلاثة تجمعها كلمة واحدة هي (مَرَجَ)، فسبحان الله!
- الاختلاف:
هنالك اختلاف في درجات الحرارة والملوحة تبعاً لليل والنهار، المنحني الأسود المتعرج يمثل المدّ والجزر، أي يمثل ارتفاع مستوى سطح الماء وانخفاضه بين الليل والنهار، يمثل الخط الأحمر اختلاف درجة الحرارة بين الليل والنهار، أما الخط الأزرق فيمثل اختلاف درجة الملوحة بين الليل والنهار. طبعاً عندما يرتفع مستوى سطح البحر فإن درجة ملوحة الماء تزداد في منطقة البرزخ، بينما عندما يكون البحر في حالة الجزر، فإن كمية الماء العذب المتدفقة من النهر تزداد، وبالتالي تنخفض ملوحة الماء في منطقة المصب.
وتجدر الإشارة إلى أن الاختلاف في درجة الملوحة يتبع الليل والنهار والشهر والفصل ودرجة الحرارة وحركة المد والجزر. وربما نتذكر قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]. ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى الاختلافات والتغيرات الكثيرة التي نشاهدها خلال الليل والنهار، ومنها الاختلافات في الحرارة والملوحة في منطقة البرزخ. وتتضمن كلمة (مرج) هذا المعنى.
حساسية البرزخ المائي
إن الذي يتأمل التعبير القرآني (برزخ)، يلاحظ أن هنالك مسافة تفصل بين النهر العذب والبحر المالح، وهذه المنطقة حساسة جداً، فالبرزخ هو الحاجز بين الشيئين[11]. وقد ثبُت علمياً أن هذا البرزخ المائي حساس جداً ويجب العناية به، فهو آية من آيات الله ونعمه
مياه عذبة في قاع البحر!
لقد اكتشف العلماء وجود ينابيع عذبة تتدفق داخل المحيطات والبحار مصدرها المياه الجوفية المختزنة في طبقات الأرض. ويمكن القول بأن عملية امتزاج الماء المالح بالماء العذب لا تقتصر على الأنهار بل هنالك مياه مخزنة تحت الأرض أيضاً تتدفق وتمتزج بمياه البحر، ويحدث اختلاط واضطراب واختلاف في درجات الملوحة والحرارة، وبالتالي فإن التعبير القرآني (مرج البحرين) ينطبق على هذه الحالة.
وتبلغ كمية الماء العذب المختزن تحت الأرض كمياه جوفية 23.4 مليون كيلو متر مكعب، بينما تبلغ كمية الماء الموجودة في جميع الأنهار في العالم 2.12 ألف كيلو متر مكعب فقط، ويبلغ حجم الماء في البحيرات العذبة 91 ألف كيلو متر مكعب، ويمكن القول بأن حجم الماء المختزن تحت سطح الأرض أكبر من حجم الماء في الأنهار بـ 250 ضعفاً
وجه الإعجاز
1- في قوله تعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)حديث عن العمليات الفيزيائية التي تحصل فعلاً في منطقة الالتقاء بين النهر والبحر، وهي عمليات خلط مستمر وذهاب وإياب للماء، وهذا هو تماماً ما تعنيه هذه الكلمة.
2- نلاحظ أن الله تعالى قال: (مرج البحرين)ولم يقل (مرج النهر والبحر)،لأن عملية المرج تتم مع الأنهار ومع المياه العذبة المختزنة في الأرض، والتي تتدفق من قاع المحيطات، وهذه المياه هي بحر أيضاً، ولكنه بحر عذب لا نراه، ولكن الله يراه وقد حدثنا عنه قبل علماء أمريكا بقرون كثيرة!
3- إن كلمة (مرج) هي الكلمة الدقيقة للتعبير عن طبيعة ما يجري في منطقة اختلاط الماء العذب بالماء المالح، بينما نجد العلماء يستخدمون عدة كلمات للتعبير عن هذه الظاهرة مثل (خلط، تمازج، حركة، اضطراب، اختلاف...)، وجميع هذه المعاني تحققها الكلمة القرآنية، فسبحان من أنزل هذه الكلمة!
4- في قوله تعالى (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا)حديث عن وجود برزخ، وهو منطقة تفصل بين ماء النهر وماء البحر، وهذه المنطقة أو هذا البرزخ هو ما يسميه العلماء بمنطقة المصب أو Estuary. طبعاً هذه المنطقة تتشكل بسبب القوانين التي أودعها الله في الماء، وتسمى بقوانين ميكانيك السوائل، أي أن القرآن قد قرر حقيقة علمية قبل أن يكتشفها العلماء بقرون طويلة، وهذا سبق قرآني في علم المياه.
5- في قوله تعالى (وَحِجْرًا مَحْجُورًا)،إشارة إلى أن هذه المنطقة مميزة وذات خصائص محددة تختلف عما يحيط بها من بحر أو نهر، وفيها كائنات محددة تختلف أيضاً عن كائنات البحر وكائنات النهر، وهذه المنطقة لا تسمح للماء المالح أن يطغى على الماء العذب، ولذلك فهي كالحجرة المنيعة والمغلقة، وهذا ما يقوله العلماء اليوم.
6- في قوله تعالى: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)حديث عن الاختلاف الكبير في درجة الملوحة بين ماء النهر وماء البحر، وهذا ما نراه فعلاً، فماء النهر يكاد يخلو من الملح إلا بنسبة ضئيلة جداً، بينما نجد أن المتر المكعب من ماء البحر يحوي 35 كيلو غرام من الملح! ولو أن القرآن وصف ماء النهر بالعذب فقط لكان هنالك خطأ علمي، إذ أن ماء النهر ليس عذباً مئة بالمئة، إنما هنالك بعض الأملاح والمعادن والمواد الأخرى التي تعطي هذا الماء طعماً مستساغاً، ولذلك قال تعالى (عَذْبٌ فُرَاتٌ).
الأمر ذاته ينطبق على ماء البحر، فلم يقل القرآن (وهذا ملح)، ولو قال ذلك لكان هنالك خطأ علمي أيضاً، لأن جميع المياه في الأرض تحوي شيئاً من الأملاح بنسبة أو بأخرى. ولذلك قال (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)كإشارة إلى الملوحة الزائدة، وهذا التعبير دقيق من الناحية العلمية.
7- تعتبر منطقة المصبات من أكثر المناطق حساسية وذات أهمية بيئية كبيرة، وهي لذلك تستحق الذكر كنعمة من نعم الله علينا، حتى إن الكثير من الحضارات ازدهرت في مناطق المصبات، مثل دلتا النيل، والمنطقة بين نهر دجلة والفرات ونهر التايمز في مدينة لندن، ونهر هيدسون في مدينة نيويورك[16].
وإن القرآن عندما يتحدث عن هذه المنطقة إنما يؤكد أهميتها وتميزها
مع العلم أن هذه المعلومات لم تكن متوافرة لإنسان يعيش في صحراء لا أنهار فيها ولا بحار
ومن غير الممكن لبشر أن يتحدث عن هذه المناطق بدقة مذهلة لو لم يكن رسولاً من عند الله تعالى!
فيا ليت علماء الغرب يقرأون القرآن ويتدبّرونه، ليستفيدوا من هذه الحقائق في الوصول إلى معرفة الله تعالى والإيمان به. ويا ليتنا نطور أنفسنا من الناحية العلمية ونسبقهم لهذه الاكتشافات!
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) [الفرقان: 53]. تحدثت هذه الآية عن نعمة من نعم الله تعالى علينا، وهي أن جعل بين النهر العذب والبحر المالح برزخاً منيعاً يمنع طغيان أحدهما على الآخر ويحافظ على التوازن المائي على كوكب الأرض، ولذلك قال: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا). ونلاحظ من هذه الآية أن البحر يمكن أن يكون عذباً فراتاً ويمكن أن يكون ملحاً أجاجاً. وفي هذه الآية إشارة أيضاً إلى وجود حاجز منيع وقوي سمّاه القرآن (البرزخ).
إن الذي يتأمل هذه الآية يدرك أن الله تعالى يتحدث عن معجزة عظيمة وآية كبرى، وهي امتزاج الماء العذب بالماء المالح عبر حاجز منيع وحِجرٍ محكم. وكأن الله تعالى يعطينا إشارة إلى أهمية هذه المنطقة، أي منطقة مصبّات الأنهار في البحار، وهذا ما سنراه الآن علمياً.
ما هو الحِجْر؟
يقول الفيروز آبادي في معجم القاموس المحيط: "الحَجْرُ: المَنْعُ، ونشأَ في حِجْره أي: في حِفظِه"[1]. ونستطيع أن نستنتج أن هنالك حاجزاً منيعاً ومحفوظاً برعاية الله تعالى، أو أن هنالك منطقة من الماء محاطة بحواجز كأنها حجرة مغلقة، ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "وهو الذي مرج البحرين: أي خلق الماءين، الحلو والملح. فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، وهذا هو البحر الحلو. وجعل بينهما برزخاً: أي حاجزاً، وحِجراً محجوراً: أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر[2]".
ولكن ماذا عن العلم الحديث وماذا يقول في ذلك؟
أهمية البرزخ المائي
البرزخ المائي هو منطقة تقع على مصبات الأنهار عندما يلتقي النهر مع البحر، أي عندما يلتقي الماء العذب بالماء المالح، وهي منطقة تعتبر مغلقة ومحاطة بحاجز مائي أو من اليابسة. يسميها العلماء اليوم estuaryوتحظى هذه المناطق باهتمام كبير من قبل العلماء، لأن امتزاج الماء العذب بالمالح هي ظاهرة فريدة ورائعة حقاً3].
إن الذي يزور منطقة المصب هذه أو التي يسميها القرآن بمنطقة الحاجز أو البرزخ يلاحظ الاختلافات الكبيرة في هذه البيئة والفروقات في كثافة المياه ودرجة ملوحتها ودرجة حرارتها من لحظة لأخرى ومن فصل لآخر[4]
أي أن هنالك عملية مزج وخلط وتداخل مستمر للماء العذب والماء المالح.
وربما نعجب إذا علمنا أن كلمة (مَرَجَ) الواردة في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) تعبر تعبيراً دقيقاً عن العمليات التي تتم في هذه المنطقة والتي رصدها العلماء حديثاً.
ففي القاموس المحيط نجد معنى كلمة (مَرَجَ): خَلَطَ
وأمر مَرِيج: مختلط، والمَرجُ: الاختلاط والاضطراب[5]. وفي تفسير ابن كثير: "المريج: المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله، كقوله تعالى (إنكم لفي قول مختلف) [الذاريات: 8]"[6].
والعجيب جداً أن ما يحدث فعلاً في منطقة المصب يشمل جميع هذه المعاني، أي أن الكلمة القرآنية تعبّر تعبيراً دقيقاً عن حقيقة ما يحدث
كيف لا تعبر عن الحقيقة وهي منزّلة من خالق هذا المصب سبحانه وتعالى؟
أقسام منطقة المصب
يقسّم العلماء اليوم منطقة المصب إلى ثلاثة أقسام:
1- منطقة الماء العذب من جهة النهر.
2- منطقة الماء المالح من جهة البحر.
3ـ منطقة الحاجز بين النهر والبحر، وهي ما يسميه القرآن بالبرزخ.
ويمكن أن يمتد تأثير المياه العذبة على المياه المالحة لمئات الكيلو مترات في البحر. وبالرغم من وجود الكثير من مصبات الأنهار في العالم، إلا أنه لا يوجد برزخ يشبه الآخر! فكل برزخ يتميز بخصائص محددة عن غيره تتبع الاختلاف في درجة الملوحة، والاختلاف في درجة الحرارة، وهذا يتبع درجة ملوحة ماء البحر، وطول النهر، وغير ذلك من العوامل مثل درجة الحموضة PH وكمية العوالق في ماء النهر وسرعة تدفق ماء النهر...
المنطقة المحجورة
في منطقة المصب، حيث يلتقي النهر مع البحر، هذه المنطقة تتميز بوجود اختلاف كبير في درجة الملوحة ودرجات الحرارة، وعلى الرغم من ذلك هنالك كائنات ونباتات وحيوانات تأقلمت وتعيش في هذه المنطقة.
إن الكائنات التي تعيش في الماء المالح لا تستطيع الحياة في الماء العذب، لأن خلايا جسدها تحوي تركيزاً محدداً من الملح وبمجرد إلقائها في الماء العذب سوف تموت بسبب دخول الماء العذب إلى جسمها بكميات كبيرة.
الكائنات التي تعيش في الماء العذب أيضاً لا يمكنها أن تعيش في الماء المالح للسبب ذاته، أما الكائنات التي تعيش في المنطقة الفاصلة بين النهر والبحر أي منطقة البرزخ فهي أيضاً لا يمكنها أن تعيش خارج هذه المنطقة لأنها تأقلمت معها، وبالتالي يقوم اليوم العلماء بدراسة منطقة المصب كمنطقة مستقلة لها طبيعتها وقوانينها وكائناتها.
وهذا يدل على أن منطقة المصب هي منطقة محجورة ولها استقلاليتها ومحفوظة أيضاً برعاية الله تعالى، وهي منطقة مغلقة تشبه الحجرة المغلقة، ومن هنا يمكن أن نفهم بعمق أكبر معنى قوله تعالى(وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا).
هنالك كائنات عديدة تعيش في منطقة المصب بين النهر والبحر، وقد زوّدها الله تعالى بأجهزة تستطيع التأقلم مع الاختلافات الكبيرة في درجات الحرارة والملوحة في هذه المنطقة. وهذه أسماك تأقلمت مع الاختلاف المستمر في درجة الملوحة والحرارة، وهذه الكائنات لا تستطيع العيش إلا في هذه المنطقة، وكأن منطقة البرزخ هذه محجورة ومحفوظة وتمنع دخول أي كائنات أخرى إليها.
اختلاط واضطراب واختلاف
من عظمة البيان القرآني أنه يعطينا التعبير العلمي الدقيق والمختصر في أقل عدد من الكلمات، فكلمة (مَرَجَ) تتضمن العديد من المعاني أهمها:
1- الخلط:يقول العلماء إن هنالك خلطاً ومزجاً مستمراً للماء المالح بالماء العذب، وهذا الخلط لا يتوقف أبداً، إذ أن سطح الماء يرتفع وينخفض باستمرار وبنظام محكم، ويبقى كل ماء منفصل عن الآخر بمنطقة محددة بينهما هي ما سمّاه القرآن بالبرزخ، هذا البرزخ قد يمتد لعدة كيلو مترات. ومن معاني كلمة (مرج): خلط، كما رأينا.
نرى في هذا الشكل نهر الفرايزر الذي ينبع من كولومبيا ويصب في مياه المحيط المالحة. ونرى كيف تتشكل الجبهة المالحة والتي تعتبر بمثابة حاجز محكم تمر من خلاله المياه العذبة إلى المياه المالحة. ونرى أيضاً كيف يطفو الماء العذب على سطح الماء المالح، وعندما درس العلماء جريان الماء في هذه المنطقة وجدوه جرياناً مضطرباً، مع العلم أن الذي ينظر إلى الماء يظنه ساكناً، وهذا يتوافق تماماً مع قوله تعالى (مرج البحرين)، والمرج هو الاضطراب، فسبحان الذي يعلم السرّ وأخفى!
2- الاضطراب:
إذا نظرنا إلى منطقة المصب نلاحظ أن الجريان مستقر، وأنها منطقة هادئة غالباً. ولكن التجارب الجديدة في منطقة البرزخ المائي بين النهر العذب والبحر المالح أشارت إلى أن الجريان هو جريان مضطرب، وهذه معلومات دقيقة لم يصل إليها العلماء إلا حديثاً جداً[9]. وهذا هو أحد معاني كلمة (مرج).
، لقد وجد هؤلاء العلماء أن هنالك مزجاً مستمراً للماء المالح بالماء العذب، كما وجدوا اختلافات كبيرة في نسبة الملوحة والحرارة والكثافة من منطقة لأخرى ومن وقت لآخر، ووجدوا أيضاً أن الجريان تحت سطح الماء مضطرب، مع العلم أنه يظهر للعين وكأنه مستقر، إذن وجدوا ثلاث حقائق في هذه المنطقة وهي: اضطراب الجريان، واختلاط الماء باستمرار واختلاف خصائص الماء، وهذه المعاني الثلاثة تجمعها كلمة واحدة هي (مَرَجَ)، فسبحان الله!
- الاختلاف:
هنالك اختلاف في درجات الحرارة والملوحة تبعاً لليل والنهار، المنحني الأسود المتعرج يمثل المدّ والجزر، أي يمثل ارتفاع مستوى سطح الماء وانخفاضه بين الليل والنهار، يمثل الخط الأحمر اختلاف درجة الحرارة بين الليل والنهار، أما الخط الأزرق فيمثل اختلاف درجة الملوحة بين الليل والنهار. طبعاً عندما يرتفع مستوى سطح البحر فإن درجة ملوحة الماء تزداد في منطقة البرزخ، بينما عندما يكون البحر في حالة الجزر، فإن كمية الماء العذب المتدفقة من النهر تزداد، وبالتالي تنخفض ملوحة الماء في منطقة المصب.
وتجدر الإشارة إلى أن الاختلاف في درجة الملوحة يتبع الليل والنهار والشهر والفصل ودرجة الحرارة وحركة المد والجزر. وربما نتذكر قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]. ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى الاختلافات والتغيرات الكثيرة التي نشاهدها خلال الليل والنهار، ومنها الاختلافات في الحرارة والملوحة في منطقة البرزخ. وتتضمن كلمة (مرج) هذا المعنى.
حساسية البرزخ المائي
إن الذي يتأمل التعبير القرآني (برزخ)، يلاحظ أن هنالك مسافة تفصل بين النهر العذب والبحر المالح، وهذه المنطقة حساسة جداً، فالبرزخ هو الحاجز بين الشيئين[11]. وقد ثبُت علمياً أن هذا البرزخ المائي حساس جداً ويجب العناية به، فهو آية من آيات الله ونعمه
مياه عذبة في قاع البحر!
لقد اكتشف العلماء وجود ينابيع عذبة تتدفق داخل المحيطات والبحار مصدرها المياه الجوفية المختزنة في طبقات الأرض. ويمكن القول بأن عملية امتزاج الماء المالح بالماء العذب لا تقتصر على الأنهار بل هنالك مياه مخزنة تحت الأرض أيضاً تتدفق وتمتزج بمياه البحر، ويحدث اختلاط واضطراب واختلاف في درجات الملوحة والحرارة، وبالتالي فإن التعبير القرآني (مرج البحرين) ينطبق على هذه الحالة.
وتبلغ كمية الماء العذب المختزن تحت الأرض كمياه جوفية 23.4 مليون كيلو متر مكعب، بينما تبلغ كمية الماء الموجودة في جميع الأنهار في العالم 2.12 ألف كيلو متر مكعب فقط، ويبلغ حجم الماء في البحيرات العذبة 91 ألف كيلو متر مكعب، ويمكن القول بأن حجم الماء المختزن تحت سطح الأرض أكبر من حجم الماء في الأنهار بـ 250 ضعفاً
وجه الإعجاز
1- في قوله تعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)حديث عن العمليات الفيزيائية التي تحصل فعلاً في منطقة الالتقاء بين النهر والبحر، وهي عمليات خلط مستمر وذهاب وإياب للماء، وهذا هو تماماً ما تعنيه هذه الكلمة.
2- نلاحظ أن الله تعالى قال: (مرج البحرين)ولم يقل (مرج النهر والبحر)،لأن عملية المرج تتم مع الأنهار ومع المياه العذبة المختزنة في الأرض، والتي تتدفق من قاع المحيطات، وهذه المياه هي بحر أيضاً، ولكنه بحر عذب لا نراه، ولكن الله يراه وقد حدثنا عنه قبل علماء أمريكا بقرون كثيرة!
3- إن كلمة (مرج) هي الكلمة الدقيقة للتعبير عن طبيعة ما يجري في منطقة اختلاط الماء العذب بالماء المالح، بينما نجد العلماء يستخدمون عدة كلمات للتعبير عن هذه الظاهرة مثل (خلط، تمازج، حركة، اضطراب، اختلاف...)، وجميع هذه المعاني تحققها الكلمة القرآنية، فسبحان من أنزل هذه الكلمة!
4- في قوله تعالى (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا)حديث عن وجود برزخ، وهو منطقة تفصل بين ماء النهر وماء البحر، وهذه المنطقة أو هذا البرزخ هو ما يسميه العلماء بمنطقة المصب أو Estuary. طبعاً هذه المنطقة تتشكل بسبب القوانين التي أودعها الله في الماء، وتسمى بقوانين ميكانيك السوائل، أي أن القرآن قد قرر حقيقة علمية قبل أن يكتشفها العلماء بقرون طويلة، وهذا سبق قرآني في علم المياه.
5- في قوله تعالى (وَحِجْرًا مَحْجُورًا)،إشارة إلى أن هذه المنطقة مميزة وذات خصائص محددة تختلف عما يحيط بها من بحر أو نهر، وفيها كائنات محددة تختلف أيضاً عن كائنات البحر وكائنات النهر، وهذه المنطقة لا تسمح للماء المالح أن يطغى على الماء العذب، ولذلك فهي كالحجرة المنيعة والمغلقة، وهذا ما يقوله العلماء اليوم.
6- في قوله تعالى: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)حديث عن الاختلاف الكبير في درجة الملوحة بين ماء النهر وماء البحر، وهذا ما نراه فعلاً، فماء النهر يكاد يخلو من الملح إلا بنسبة ضئيلة جداً، بينما نجد أن المتر المكعب من ماء البحر يحوي 35 كيلو غرام من الملح! ولو أن القرآن وصف ماء النهر بالعذب فقط لكان هنالك خطأ علمي، إذ أن ماء النهر ليس عذباً مئة بالمئة، إنما هنالك بعض الأملاح والمعادن والمواد الأخرى التي تعطي هذا الماء طعماً مستساغاً، ولذلك قال تعالى (عَذْبٌ فُرَاتٌ).
الأمر ذاته ينطبق على ماء البحر، فلم يقل القرآن (وهذا ملح)، ولو قال ذلك لكان هنالك خطأ علمي أيضاً، لأن جميع المياه في الأرض تحوي شيئاً من الأملاح بنسبة أو بأخرى. ولذلك قال (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)كإشارة إلى الملوحة الزائدة، وهذا التعبير دقيق من الناحية العلمية.
7- تعتبر منطقة المصبات من أكثر المناطق حساسية وذات أهمية بيئية كبيرة، وهي لذلك تستحق الذكر كنعمة من نعم الله علينا، حتى إن الكثير من الحضارات ازدهرت في مناطق المصبات، مثل دلتا النيل، والمنطقة بين نهر دجلة والفرات ونهر التايمز في مدينة لندن، ونهر هيدسون في مدينة نيويورك[16].
وإن القرآن عندما يتحدث عن هذه المنطقة إنما يؤكد أهميتها وتميزها
مع العلم أن هذه المعلومات لم تكن متوافرة لإنسان يعيش في صحراء لا أنهار فيها ولا بحار
ومن غير الممكن لبشر أن يتحدث عن هذه المناطق بدقة مذهلة لو لم يكن رسولاً من عند الله تعالى!
فيا ليت علماء الغرب يقرأون القرآن ويتدبّرونه، ليستفيدوا من هذه الحقائق في الوصول إلى معرفة الله تعالى والإيمان به. ويا ليتنا نطور أنفسنا من الناحية العلمية ونسبقهم لهذه الاكتشافات!
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا